فصل: (فرع: وجد رأس المال معيبًا بعد التفرق)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[فرع: وجد رأس المال معيبًا بعد التفرق]

إذا قبض المسلم إليه رأس المال، فوجده معيبًا بعد التفرق، فإن كان العيب من غير جنس رأس المال، مثل: أن يسلم إليه دراهم، فوجدها رصاصًا أو نحاسًا.. بطل السلم؛ لأنهما تفرّقا قبل قبض رأس المال. وإن كان العيب من جنسه، مثل: أن وجد الدراهم مضطربة السكة، أو كانت فضتها خشنة.. نظرت:
فإن كان العقد وقع على عينها.. فالمسلم إليه بالخيار: بين أن يرضى بها، وبين أن يردّها أو يفسخ العقد. ولا يمكنه أن يطالب ببدلها؛ لأن العقد وقع على عينها.
وإن كان العقد وقع على دراهم في الذمة، ثم عين تلك الدراهم عنها.. فهل له أن يطالب ببدلها بعد التفرق؟ فيه قولان، قد مضى ذكرهما في (الصرف).

.[فرع: الاختلاف في قبض القيمة]

إذا أسلم إلى رجل دراهم في شيء، فحصلت الدراهم في يد المسلم إليه، ثم اختلفا، فقال المسلم: أقبضتك هذه الدراهم بعد التفرق، وأقام على ذلك بينة، وقال المسلم إليه: بل أقبضتنيها قبل التفرق، وأقام على ذلك بينة.. قال أبو العباس: فبينة المسلم إليه أولى؛ لأنها مثبتة، والأخرى نافية، والمثبتة أولى.
وكذلك: لو كانت الدراهم في يد المسلم، فقال المسلم إليه: أقبضتني في المجلس، وأودعتها عندك، أو غصبتني عليها، وأقام على ذلك بينة، وقال المسلم: ما أقبضتك، وأقام على ذلك بينة.. فبينة المسلم إليه أولى؛ لأن بينته مثبتة. والله أعلم، وبالله التوفيق

.[باب تسليم المسلم فيه]

إذا حل دين السلم.. وجب على المسلم إليه تسليم المسلم فيه على ما اقتضاه العقد، فإن كان المسلم فيه تمرًا.. قال الشافعي: (فليس على المسلم أن يأخذه إلا جافًّا).
قال أصحابنا: ولم يرد بهذا: أن يكون مشمَّسًا، وإنما أراد به: إذا بلغ إلى حالة الادخار، وعليه أن يأخذه، وهو: إذا وقع عليه اسم الجفاف، وإن لم يتناه جفافه. وإن كان المسلم فيه رطبا.. لزمه ما يقع عليه اسم الرطب، ولا يلزمه أن يقبل بُسرًا، ولا مذنَّبًا، ولا منصَّفًا، ولا مشدَّخًا.
فأمَّا (المذنَّب): فهو الذي أرطب في أذنابه لا غير.
وأمّا (المنصَّف): فهو الذي نصفه بسر، ونصفه رطب.
وأمّا (المشدَّخ): فذكر الشيخ أبو حامد: أن المشدخ هو الذي ضرب بالخشب، حتى صار رطبا، فلا يلزمه قبوله؛ لأنه لا يتناوله اسم الرطب. وإن تناوله.. فيكون رطبًا مفتوتًا.
وقيل: إنهم يشمِّسون البسر، ثم يلدكونه بكساء صوف غليظ، وما أشبهه، فيصير طعمه طعم الرطب، يفعلون ذلك؛ استعجالاً لأكل الرطب من البسر قبل الإرطاب. ولعل الشيخ أبا حامد أراد: أنهم يضربون البسر بالخشب؛ ليصير طعمه طعم الرطب.
وإن كان المسلم فيه طعامًا.. لزمه أن يدفع إليه طعامًا نقيًّا من الشعير، والزُّؤان، وعقد التبن؛ لأن هذه الأشياء تنقصه عن الكيل والوزن. وإن كان فيه قليل تراب أو شيء من دُقاق التبن.. نظرت:
فإن أسلم فيه كيلا.. لزمه قبوله؛ لأن ذلك لا يؤثر في الكيل.
وإن أسلم فيه وزنًا.. لم يلزمه قبوله؛ لأن ذلك يؤثر في الوزن، فيكون المقبوض دون حقه.

.[مسألة: قبض المسلم فيه والزيادة أو النقصان عليه]

إذا أسلم إليه في شيء، فأتى المسلم إليه بالمسلم فيه.. لم يخل من ثلاثة أحوال: إما أن يأتيه بالمسلم فيه على الصفة المشروطة، أو يأتي بأدنى منه، أو يأتي بأعلى منه.
فأحدها إن أتاه على صفة المسلم فيه، بأن أسلم إليه بطعام جيد، فأتاه بطعام يقع عليه اسم الجيد وإن كان غيره أجود منه.. لزمه أن يقبله.
وثانيها إن أتى به أردأ من المسلم فيه، بأن أتاه بطعام رديء.. لم يلزمه قبوله؛ لأنه دون ما شرط. وإن قال المسلم إليه: خذ هذا، وأعطيك عن الجودة عوضًا.. لم يصح؛ لأنه بيع صفة، والصفة لا تفرد بالبيع، ولأنه بيع جزء من المسلم فيه قبل القبض.
وثالثها إن أتاه بأعلى من المسلم فيه.. فلا تخلو الزيادة من أربعة أحوال:
إما أن تكون زيادة في الصفة، أو في العدد، أو في الجنس، أو في النوع.
فأحدها إن كانت الزيادة في الصفة، مثل: أن يسلم إليه في طعام رديء، فجاءه بطعام جيد، فإن رضي المسلم إليه بتسليمه عمّا في ذمته.. لزم المسلم قبوله؛ لأنها زيادة لا تتميز، فإذا رضي المسلم إليه بتسليمها.. لزم المسلم قبولها، كما لو أصدق امرأته عينًا، فزادت في يدها زيادة لا تتميّز، ثم طلقها قبل الدخول، ورضيت المرأة بتسليم نصف العين مع زيادتها.. فإن الزوج يلزمه قبولها.
وإن لم يتطوع المسلم إليه بتسليمها، بل طلب عن الجودة عوضًا.. لم يصح؛ لأن الجودة صفة، فلا يجوز إفرادها في العقد.
وثانيها إن كانت الزيادة في العدد، مثل: أن يسلم إليه بخمسة أذهاب حنطة، فجاءه بعشرة أذهاب حنطة.. لم يلزم المسلم قبول ما زاد على الخمسة؛ لأن ذلك ابتداءً هبة، فلم يجبر على قبولها.
وثالثها إن كانت الزيادة في الجنس، مثل: أن يسلم إليه على ذرة، فأعطاه عن الذرة حنطة.. لم يلزمه قبول ذلك، فإن قبله.. لم يصح؛ لما رواه أبو سعيد الخدري: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أسلف في شيء.. فلا يصرفه إلى غيره».
ورابعها إن كانت الزيادة في النوع، مثل: أن يسلم إليه على ذرة حمراء، فجاءه عنها بذرة بيضاء.. فحكى الشيخ أبو حامد فيه وجهين:
أحدهما: يلزم المسلم قبوله.
وهذا القائل يدعي: أن هذا ظاهر مذهب الشافعي؛ لأنه قال: (وأصل ما يلزم المسلم قبول ما سلف فيه، هو أن يأتيه به من جنسه). وهذا قد أتى به من جنسه. ولأنه قد أعطاه من جنس حقِّه، وفيه زيادةٌ لا تتميز، فأشبه ما لو أسلم في نوع رديء، فأعطاه من ذلك النوع جيِّدًا.. فإنه يلزمه قبوله.
والثاني: لا يلزمه قبول؛ لأنه لم يأت به على الصفة التي اشترط عليه، فلا يلزمه قبوله، كما لو أتاه بجنس آخر.
وهذا القائل يقول: يجوز أن يقبل؛ لأنه من جنس حقه.
وقال القاضي أبو الطيب: الوجهان في الجواز، فأما الوجوب: فلا يجب عليه قبوله، وجهًا واحدًا. وهو اختيار الشيخ أبي إسحاق في "المهذب".
وإن أسلم إليه في ذرة بيضاء، فجاءه عنها بذرة حمراء.. فلا يلزمه قبولها، وجهًا واحدًا، وهل يجوز له قبولُها؟ يحتمل أن تكون على الوجهين في المسألة قبلها.

.[فرع: كيفية استعمال المكيال]

إذا أسلم إليه في مكيل.. قال الشافعي: (فليس له أن يدق المكيال، ولا أن يزلزله، ولا أن يكنف بيديه على رأسه؛ لأن هذه زيادة في الكيل. ولكن له ما حمله المكيال، وهو أن يكال برأسه). وهذا صحيح، كما قال: (ليس له أن يدق رأسه، ولا أن يزلزله، ولا أن يكنف بيديه على رأسه؛ لأن هذا زيادةٌ في الكيل، ولكن له ما حمله المكيال، وهو أن يكال برأسه).

.[فرع: تقديم التسليم عن الوقت المعين أو بعده]

وإن أسلم إليه في شيء إلى محل، فجاءه به المسلم إليه قبل المحل، فامتنع المسلم من قبضه، فإن كان المسلم فيه مما يلحقه التغير والتلف إلى وقت المحل، بأن كان لحمًا أو رطبًا أو سائر الفواكه الرطبة.. لم يلزم المسلم قبوله؛ لأن له غرضًا في تأخيره، بأن يحتاج إلى أكله أو طعامه في ذلك الوقت.
وكذلك: إن كان المسلم فيه حيوانًا.. لم يلزمه قبوله قبل المحل؛ لأنه يخاف عليه التلف، ويحتاج إلى العلف إلى ذلك الوقت.
وإن كان لا يخاف عليه التغيُّر ولا التلف، ولكن يحتاج إلى مكان يحفظه فيه،
يلزمه عليه مؤنة، كالحنطة والقطن.. لم يلزمه قبوله؛ لأن عليه ضررًا في المؤنة في حفظه إلى وقت المحل.
فإن كان لا يحتاج إلى مؤنة في حفظه، كالحديد الرصاص والنحاس الذي يستعمل، فإن كان الوقت مخوفًا..لم يلزمه قبوله؛ لأنه يخاف عليه التلف إلى وقت المحل. وإن كان الوقت آمنًا.. لزمه قبوله؛ لأنه لا ضرر عليه في قبوله. فإن لم يقبله.. قبله الحاكم وحفظه؛ لما رُوي: (أن أنس بن مالك كاتب عبدًا له على مال، فجاءه العبد بالمال قبل المحل، فلم يقبله منه أنس، فأتى به العبد عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فأخذ المال منه، وتركه في بيت المال، وقال للعبد: قد عتقت).
وإن سأل المسلِم المسلَم إليه: أن يقدِّم له المسلَم فيه قبل المحل.. لم يلزم المسلَم إليه تقديمه؛ لأن ذلك يبطل فائدة التأجيل.
وإن قال المسلم إليه: انتقص لي من الدين؛ لأقدمه لك، ففعل.. لم يصح القبض؛ لأنه بيع أجل، والأجل لا يفرد بالبيع.
فإن جاء المسلم إليه المسلم بالمسلم فيه، بعد حلول الدين على صفته، فامتنع المسلم من قبضه.. قال له الحاكم: إما أن تقبضه، أو تبرِّئ المسلم إليه منه. وسواء كان للمسلم غرض في الامتناع أو لا غرض له؛ لأن للمسلم إليه غرضًا في الدفع، وهو أن يبرأ مما عليه من الحق، وقد حل الحق. وإن لم يفعل المسلم ذلك.. قبضه الحاكم عنه، وبريء المسلم إليه؛ لأن الحاكم ينوب عن الممتنع، ولا يملك الحاكم الإبراء؛ لأنه لا نظر للمسلم في الإبراء عنه، وله حظٌّ في حفظ ماله.

.[فرع: عدم الالتزام بشروط السلم]

إذا تعين موضع التسليم، بإطلاق العقد أو بالشرط، فجاءه به في غير ذلك الموضع.. لم يجبر المسلم على قبوله؛ لأنه يفوت عليه غرضه في ذلك الموضع. فإن بذل له أجرة حمله إلى ذلك الموضع.. لم يلزمه قبوله، ولم يجز له أخذ الأجرة؛ لأن بدل العوض عن المسلم فيه لا يجوز، فكذلك في تسليمه في موضع.
وإن جعله نائبًا عنه في حمله إلى ذلك الموضع.. لم يكن المسلم قابضًا له، بل يفتقر إلى تسليمه إيّاه في الموضع المعين، أو في غيره إذا رضي المسلم بذلك.
وإن أسلم إليه في شيء كيلا، فأعطاه إيّاه وزنًا، أو أسلم إليه فيه وزنًا، فأعطاه كيلا.. لم يصح القبض؛ لأن الكيل والوزن يختلفان؛ لأن الوزين يقل كيله ويكثر وزنه، والخفيف يقل وزنه ويكثر كيله.

.[مسألة: لا اعتبار بكيل المسلَم إليه]

قال الشافعي: (ولو أعطاه طعامًا، فصدَّقه في كيله.. لم يجز، فإن قبضه.. فالقول قول القابض مع يمينه). وجملة ذلك: أنه إذا كان له في ذمة رجل طعام مكيل، أو اشترى منه عشرة أقفزةٍ من صبرةٍ بعينِها، فسلَّم إليه من عليه الطعام طعامًا من غير كيل، وأخبره بكيله، فصدقه على كيله، أو لم يصدقه.. لم يجز له قبضه بغير كيل؛ لأن المستحق عليه القبض بالكيل، فإذا قبضه من غير كيل.. لم يصح القبض. فإن كان الطعام باقيًا.. ردّه على البائع، ثم يكيله على المسلم، فإن كان وفق حقه.. فلا كلام، وإن كان دون حقه.. استوفى منه حقَّه، وإن كان أكثر من حقِّه.. كان الفضل للمسلم إليه. فإن تلف الطعام في يد القابض قبل أن يكال عليه.. تلف من ضمانه؛ لأنه قبضه لنفسه، فإن اتَّفقا على قدره.. فلا كلام، وإن اختلفا في قدره، فادّعى القابض: أنه كان دون حقه، وادّعى مالك الطعام: أنه قدر حقه وأكثر.. فالقول قول القابض مع يمينه،
سواء ادعى نقصانًا قليلاً كان أو كثيرًا ـ نصَّ عليه الشافعيُّ في (الصرف) ـ لأن الأصل عدم القبض وبقاء الحق، فلا يبرأ من عليه الحق، إلا من القدر الذي يقر به القابض.
فإن قيل: كيف سمعت دعوى القابض في النقصان، وقد قال الشافعي في المسألة: (فصدقه في كيله)؟
قال أصحابنا: لم يُرد الشافعي: أنه اعترف بصحة الكيل، وإنما هو قبول قول المخبر، وحمل قوله على الصدق، فإن بان له أنه بخلافه.. سمعت دعواه.
قال الشيخ أبو حامد: إذا ثبت هذا: فإنه يكون قبضًا فاسدًا، فإن المسلم إذا قبضه وكان قدر حقِّه وزيادة عليه.. فإنه يملك بقدر حقه بالقبض، وينتقل الضمان إليه، وتبرأ ذمة البائع عنه.
وهل يجوز للقابض التصرف فيه؟ نظرت:
فإن أراد أن يتصرف في الجميع.. لم يجز؛ لأن للبائع فيه تعلقًا؛ لأنه ربما إذا كيل يخرج زيادة على قدر ما يستحق القابض، فلم يصح تصرفه في الجميع.
فإن أراد أن يبيع منه قدر ما يتحقق أنه يخصه، بأن باع نصف قفيز منه، وله قفيز.. ففيه وجهان:
أحدهما قال أبو إسحاق: يصح؛ لأن ذلك الشيء في ملكه، وانتقل الضمان إليه، ويعلم أنه قدر حقه، فجاز بيعه فيه.
والثاني: قال أبو عليِّ بن أبي هريرة: لا يصح بيعه، وهو المنصوص في (الصرف)، ولأن العلقة باقية بينه وبين البائع. قال فيه: (لأن ماله غير متميِّز عن مال البائع، فلم يصح بيعه فيه).

.[مسألة: لا يصح بيع المسلم فيه قبل قبضه]

قال الشافعي في "الأم" [3/61] (ولو أسلم في طعام، وباع طعامًا آخر، فأحضر المشتري منه أكياله من بائعه، وقال: أكتاله لك.. لم يجز؛ لأنه بيع الطعام قبل القبض).
واختلف أصحابنا في صورة هذه المسألة:
فمنهم من قال: صورتها: أن يسلم زيدٌ إلى عمرٍو في طعام، فلمَّا حل الأجل.. باع زيد الطعام الذي له في ذمة عمرو من خالد قبل قبضه، فإن هذا لا يصح؛ لما روى أبو سعيد الخدري: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أسلف في شيء.. فلا يصرفه إلى غيره»، ولأن بيع الطعام المشترى قبل القبض لا يصح وإن كان مُعيَّنًا، فلأن لا يصح بيع المسلم فيه قبل القبض أولى.
قال: وتعليله يدل عليه؛ لأنه قال: (لأنه بيع الطعام قبل القبض).
قال: وقول الشافعي: (وباع طعامًا آخر) يريد: باع ذلك الطعام من آخر.
وقال أكثر أصحابنا: ما ذكره هذا القائل صحيح في الفقه، ولكن ليس هذا صورة المسألة التي ذكرها الشافعي، وإنما صورتها: أن يكون لزيد طعام في ذمة عمرو سَلَمٌ، وفي ذمة زيد لخالد طعام سلم، فقال زيد لخالد: أحضر أكيال ما لي عند عمرو لأكتاله لك.. فإنه لا يصح؛ لما روى جابر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الطعام، حتى يجري فيه الصاعان».
والدليل على أن هذا مراده فيما ذكر: أنه قال: (وباع طعامًا آخر). ولو أراد بيع ذلك الطعام.. لقال: وباع ذلك الطعام آخر. ولأنه قال بعدها: (ولو قال: أكتاله لنفسي، وخذه بالكيل.. لم يجز). ولو كان قد باعه الطعام قبل القبض.. لم يكن لحضوره واكتياله لنفسه معنًى.
قالوا: وأمّا تعليله: فإنما أراد: أن هذا مثل بيع الطعام قبل القبض؛ لأنه لا يضمنه قبل أن يقبضه، كما لا يجوز بيعه قبل قبضه.
إذا ثبت هذا: ففيه خمس مسائل:
إحداهن: أن يقول زيد لخالد: احضر معي حتى أكتاله لك، فاكتاله زيد لخالد من عمرو، فلا يصح القبض لخالد، وجهًا واحدًا؛ لحديث جابر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الطعام، حتى يجري فيه الصاعان: صاع البائع، وصاع المشتري». وهذا لم يجر فيه الصاعان، ولأنه لا يستحق على عمرٍو شيئًا، فلم يصح القبض له منه. وهل يصح القبض لزيد من عمرو؟ فيه وجهان، بناء على القولين في السيد، إذا باع نجوم المكاتب ـ وقلنا: لا يصح القبض ـ فقبض المشتري النجوم.. فهل يعتق المكاتب؟ فيه وجهان:
أحدهما: إن قلنا: يصح قبض زيد لنفسه.. كاله لخالد مرة ثانية.
والثاني: إن قلنا: لا يصح قبض زيد لنفسه.. رد الطعام إلى عمرو؛ ليكيله لزيد، ثم يكيله زيد لخالد.
وإن اختلف زيدٌ وعمرٌو في المقبوض.. فالقول قول زيد مع يمينه. وإنما يقبل قوله مع اليمين، إذا كان ما يدّعيه محتملاً، فأمّا إذا ادّعى تفاوتًا كثيرًا: لم يقبل قوله؛ لأن هذا القدر لا يتفاوت. وهكذا: لو اختلف زيد وخالد فيما قبض خالد.. فالقول قول خالد مع يمينه إذا كان ما يدّعيه تفاوتًا يسيرًا، وإن كان تفاوتًا كثيرًا.. لم يقبل قوله؛ لأن مثل ذلك لا يتفاوت.
المسألة الثانية: أن يقول زيد لخالد: اذهب، فاكتل الطعام لنفسك من عمرو، ففعل، فإن قبض خالد لنفسه لا يصح، وجهًا واحدًا؛ لأنه لا شيء له في ذمة عمرو. وهل يصح قبض خالد من عمرو لزيد؟ على الوجهين.
المسألة الثالثة: أن يقول زيد لخالد: احضر معي حتى أكتاله من عمرو لنفسي، ثم تأخذه بذلك الكيل، فحضر، فاكتاله زيد لنفسه، ثم سلّمه زيد إلى خالد جزافًا من غير كيل، صح قبض زيد لنفسه؛ لأنه قبضه لنفسه قبضًا صحيحًا، ولا يصح قبض خالد من زيد؛ لأنه قبضه من غير كيل.
المسألة الرابعة: إذا اكتاله زيد لنفسه من عمرو، ثم كاله زيد لخالد مرة ثانية.. صح القبضان؛ لأن الطعام قد جرى فيه الصاعان.
المسألة الخامسة: أن يكتاله زيد لنفسه من عمرو، ثم يسلمه إلى خالد عمّا عليه له وهو في المكيال، فإن قبض زيد لنفسه من عمرو صحيح، وهل يصح قبض خالد من زيد؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يصح؛ لحديث جابر: (أن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الطعام، حتى يجري فيه الصاعان». وهذا يقتضي كيلا بعد كيل.
والثاني: يصح؛ لأن استدامة الكيل بمنزلة ابتدائه، بدليل: أنه لو أسلم إليه بذهب طعام، فابتدأ المسلم إليه وكاله للمسلم.. صح، ولو كال الطعام بالذهب عند السلم، فسلمه إليه.. صح، فكذلك هاهنا مثله.

.[مسألة: دفع المسلم إليه بدلاً إلى المسلم دراهم]

وإن كان لزيد في ذمة عمرو طعام من سلم، فدفع عمرو إلى زيد دراهم، وقال اشتر بها لنفسك طعامًا، مثل الطعام الذي لك عليَّ، ففعل.. لم يجز؛ لأن الدراهم ملك لعمرو، فلا يجوز أن يكون عوضها ملكًا لزيد. فإن اشترى زيد الطعام بعين الدراهم.. لم يصح الشراء، وإن اشترى زيدٌ الطعام بدراهم في ذمته، ثم سلَّم تلك الدراهم عمّا في ذمّته.. صح الشراء لنفسه، ولا تبرأ ذمته بتسليم تلك الدراهم؛ لأنه لا يملكها، وعليه ضمانها. وإن قال عمرٌو لزيد: اشتر بها لي طعامًا، واقبضه لنفسك.. فإن الشراء يصح لعمرو؛ لأنه اشتراه له، ولا يصح القبض لزيد؛ لأنه لا يصح أن يكون قابضًا لنفسه من نفسه. وهل يصح القبض لعمرٍو؟ فيه وجهان، كالوجهين في المسألة قبلها.
وإن قال: اشتره لي واقبضه لي، ثم اقبضه لنفسك، أو خذه بذلك الكيل لنفسك.. فإن الشراء والقبض يصح لعمرو، ولا يصح القبض لزيد؛ لأنه لا يجوز أن يقبض لنفسه من نفسه.

.[فرع: إحالة صاحب القرض على من له سلم]

وإن كان لزيد في ذمة عمرو طعام من جهة القرض، ولخالد في ذمة زيد طعام من جهة السَّلَم، فأحال زيد خالدًا بالطعام الذي له عليه على عمرو.. لم تصح الحوالة؛ لأن خالدًا يبيع طعامه الذي له على زيد من السلم بالطعام الذي لزيد من جهة القرض، وقد بيّنّا: أن بيع المسلم فيه قبل القبض لا يصح، فالفساد هاهنا من جهة خالد.
وإن كان الطعامان من السلم.. لم تصح الحوالة؛ لما ذكرناه، والفساد هاهنا من الطرفين.
وإن كان الطعامان من جهة القرض.. فهل تصح الحوالة بهما؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو حامد:
أحدهما: يصح ـ وهو الصحيح ـ لأن بيع القرض يصح قبل القبض، وكل واحد منهما قرض، ولأن كل واحدٍ منهما مستقر في الذمة، فجاز أن يعتاض من ذمة إلى ذمة، بخلاف السلم.
والثاني: لا تصح؛ لأن الحوالة لو صحّت في الطعام، إذا كان من جهة القرض.. لصحَّت وإن كان من جهة البيع، كالدراهم والدنانير لمّا جازت الحوالة بهما إذا كانا من جهة القرض.. جازت أيضًا إذا كانا من جهة البيع. فلمّا لم تجز الحوالة بالطعام إذا كان من جهة البيع.. لم تصح إذا كانت من جهة القرض.

.[فرع: الشركة والتولية في السلم]

لا تجوز الشركة والتولية في المسلم فيه قبل القبض.
و(الشركة): أن يقول المسلم لغيره: أشركتك في نصف المسلم فيه بنصف الثمن، فيكون ذلك بيعًا لنصف المسلم فيه.
و(التولية): أن يقول وليتكه بجميع الثمن، أو ولّيتك نصفه بنصف الثمن.
وقال مالك: (تجوز).
دليلنا: أنها معاوضة في المسلم فيه قبل قبضه، فلم يجز، كما لو كان بلفظ البيع.

.[فرع: مسائل بالقضاء المشروط في المسلم فيه]

ذكر الشافعي في (الصرف) أربع مسائل:
إحداهن: لو كان في ذمة رجل لغيره طعام، فسأل من عليه الطعام من له الطعام:
أن يبيعه طعامًا، بشرط أن يقضيه ما له عليه منه، فباعه منه بهذا الشرط.. فالبيع باطل؛ لأن هذا شرط ينافي مقتضى العقد، فأبطله.
الثانية: إذا باع منه طعامًا مطلقًا، ونيتُهما أن يقضيه منه.. صح البيع؛ لأنه بيع مطلق.
الثالثة: أن يقول من له الطعام لمن عليه: اقضني ما لي عليك على أن أبيعكه، فقضاه.. صح القبض؛ لأن هذا قبض مستحق عليه، فإذا قضاه.. وقع عن المقبوض. والقابض بالخيار: بين أن يبيعه منه أو لا يبيعه؛ لأن هذا وعدٌ وعده، فكان بالخيار في الوفاء به.
الرابعة: أن يقول من له الطعام: اقضني أكثر مما أستحقه أو أجود منه، بشرط أن أبيعه منك، فقضاه كذلك.. لم يصح القبض؛ لأن هذا غير مستحق عليه، فكان قبضًا فاسدًا.
قال الشيخ أبو حامد: فيجب عليه أن يرد الزيادة، وإن قضاه من غير جنس حقه.. ردّه وأخذ قدر حقه من جنسه، ثم إن شاء باعه منه، وإن شاء لم يبعه.